إشراقة

 

 

الخير و مُحْتَضِنُوه والداعون إليه قليلون

والشرّ ومُتَبَنُّوه والمنادون به كثيرون كثرةَ البعوض أو جراثيم الأمراض

 

 

 

 

 

 

عندما أصادف شيئاً طيباً بمعنى الكلمة، أو شخصاً طيباً لايكثر مثلُه في المجتمع البشريّ الذي يزدحم بالأناسيّ، أو رجلاً ممتازًا في مجال من مجالات الحياة يندر نظيرُه في الصفات والسلوك والأداء؛ فقبلَ أن أستفيد منه وأُجَرِّبه، أروح أفكر أنّ مثلَ هذا الشيء أو مثلَ هذا الرجل قد لا أجده بعدُ. وهذا التفكيرُ قد يشغلني طويلاً وربما يحزنني جدًّا؛ حيث أُقَدِّر أن الشيء أو أن الرجل سوف لا أتمتع بمثله في طيبه وغناه ومستواه في التعامل والأخلاق المهنيّة والقيم الإنسانيّة.

     وربّما يحدث مثلُ ما أُفَكِّر، فيحصل في الأغلب أني أفقده عاجلاً، فأظلّ أتأسّف عليه طويلاً دون أن أجد ما أو من يقاربه فضلاً أن أجد مثلَه في المحاسن والجانب الإفادي.

     عندما كانت أعمالُ البناء على قدم وساق (في الفترة ما بين 1989-2007م) لدى إعادة بناء الجامع في قريتنا: «هربوربيشي» بمديرية «مظفربور» بولاية «بيهار» بالهند، كنت كثيرَ القُدُمَات إلى مدينتا «مظفربور» المذكورة، أيامَ كنتُ أكون موجوداً بالقرية بمناسبة الإجازات الطويله، كإجازة رمضان وعيد الفطر وإجازة عيد الأضحى. وذلك لشراء المواد البنائية. وذات مرة قصدتُ المدينةَ بصحبة بعض جيراني بالقرية وأترابي بها، لشراء موادّ دهن و طلي الأبواب و الشبابيك والنوافذ الخشبية والجدران، واهتديتُ إلى محلّ لمواد الدهان والطلاء بدلالة بعض الإخوان الذين كان لهم سابقُ معرفةٍ بهذا النوع من السوق. وكان صاحبه هندوسيًّا ينطق بالأردية فصيحةً بلهجة تُقَارِب لهجةَ الناطقين الأصلاء بالأردية، كأهالي دهلي والمناطق الغربية من ولاية «أترابراديش» المجاورة لدهلي؛ فاستأنستُ به و وجدتُ نفسي مرتاحةً إليه، وتكلمتُ معه في شأن الموادّ التي كنّا بصدد شرائها وقلتُ له: إن مطقتنا هذه معروفة بالغش التجاري إلى جانب الفساد بأنواعه التي لا تقبل العدَّ، فنودّ أن نتأكّد أننا لا نُغَشّ في محلّك ولاسيّما لأنه يبدو من تعاملك وتلقّيك لنا وأسلوبك في الصراحة في الحديث معنا أنك لا تغشنا، وسأعود إليك مرارًا كلما تمس بنا الحاجة إلى أمثال هذه الموادّ إذا تعاملتَ معنا بالشفافية، ودفعتَ إلينا الموادّ صحيحة غير مغشوسة وغير مُزَوَّرَة. فقال: ستعود إليّ بالتأكيد؛ لأنك لن تجد مثلي في هذه السوق في صدق المعاملة وصحة البضائع. وقلتُ له: أين لك هذه اللغة الأردية التي لاينطق بها بهذه اللهجة الصحيحة أهالي هذه المنطقة من بيهار؟ قال: إني راجستهاني النجار، ومكثت طويلاً أتجر أيام الشباب في دهلي. قلت: علمنا السببَ فبطل العجب.

و عدتُ بالموادّ إلى قريتنا، وتمّ استخدامها للأغراض التي اشتريت لها، فقال العمال القائمون بعملية الدهن والطلي: إن الموادّ صحيحه مائة بالمائة وأصلية لا شائبة فيها من الغش والتزوير وأن مثلها لا يُنَال بسهولة في مدننا هذه جميعًا. وبقي الدهان والصبغ سنوات طويلة لا يتغير ولا يشحب اللون والنضارة والبهاء؛ فسررت في نفسي جدًّا، ودعوتُ لصاحب المحلّ أن يهديه الله للإسلام، ويبارك له في تجارته، وعدتُ إليه كلما احتجتُ إلى الموادّ الدهنية قليلاً أو كثيرًا، وكلما قصدتُه ازددتُ إعجاباً به، وإشادةً بتعامله الحسن، ولباقته في تلقي الزبائن على اختلاف طبائعهم. وقلتُ في نفسي: إذا فقدتُه فسأكون حزيناً متأسفاً للغاية؛ لأني قد لا أجد مثلَه أو من يقاربه في محاسنه الجمّة في هذه المدينة؛ فدعوتُ ربي أن يطيل عمره، ويبارك له في تجارته، ويبقيه لنا على سيرته التي جبَّتْه إلينا.

     وبعد سنتين أو ثلاث سنوات قصدتُ المحلّ لأشتري منه بعض ما احتجتُ إليه من الموادّ الدهنية، فوجدته متوحشاً لحد ما وهادئاً بعضَ الهدوء، ولم أجد صاحب المحلّ على ذلك الكرسيّ الذي كان يجلس عليه، فظننتُ أولَ الأمر أني ربما دخلت عن خطأ محلاًّ آخر غير الذي كنت أقصده، ثم سألتُ من كان في المحل من العمال المكلفين عرضَ السلع على الزبائن: أليس هذا محلّ فلان؟ فقالوا: بلى؛ ولكنه اغتيل منذ مدة في محله هذا على أيدى عصابة من قطّاع الطريق أطلقت عليه رصاصات في ذات مساء وهو جالس على هذا الكرسي، وها هي ذه آثارُ رصاصات في أمكنة شتى من جدران المحلّ.

     فصرتُ صورةً من التأسف والحزن. وقلت في نفسي: لقد حَدَثَ ما كنتُ أخافه وأحذره، ولا ندري من هو مثله في هذه المدينة التي لايُحْصَىٰ فيها محلاَّتٌ مثلُ محلّه، ولكنه ربّما لا نجد مثلَه في أي منها في صحة المعاملة ولباقة التلقي للزبائن واجتناب الغش في السلع. وكلما زرت المدينة ذكرتُه وحسنَ أخلاقه، وظلّ ماثلاً في ذهني، ولا زال عالقاً بذاكرتي تتجدد ذكراه كلما سنحت مناسبة تخصّ محلّه.

*  *  *

     وكذلك في بلدة «سيدبور» - إحدى القرى الجامعة بمديرية «سيتامرهي» مديرية مظفربور سابقاً، وهي على الشارع الكبير الواصل بين مدينة «مفظربور» جنوباً وبين مدينة «سيتامرهي» شمالاً كان رجل مسلم له محلّ يتّجر فيه في موادّ البناء: من الإسمنت والرمال والحصيات والقضبان الحديدية البنائية، كان حليم الطبع، كريم السجيّة، نزيه الطينة، حسن المعاملة مع الزبائن، حلو الحديث معهم، هادئاً في معاملته معهم كل وقت، صادق الوعد، فلا يخلّ بالمواعيد إلاّ مضطرًّا، وأخلاقه هذه رَسَّخَتْ حبَّه في قلبي أثناء كنتُ كثيرَ الرجوع إليه إبّان إعادة بناء جامع القرية المشار إليه سابقاً؛ فعُدْتُ أخاف وأحذر أنه لئن فقدتُه لا قدّر الله ذلك فربّما لا أجد مثلَه؛ لأنّ مثلَه يقلّ؛ لأن الكرام يقلّون والشرار يكثرون. وتلك سنة الله في الكون، التي وضعها لإدارته لحكمة يعلمها.

     وحَدَثَ ما كنتُ أخاف وأحذر، فذاتَ يوم بعد فترة من الزمان قصدتُ محلّه بصحبة بعض الإخوان من القرية، لأشتري منه ما احتجت إليه مما كان يتجر فيه؛ فلم أجده، وإنما وجدت مكانَه غلاماً يافعاً تنطق ملامح الحزن على وجهه، فسألتُه ويساورني بعضُ المخاوف: أين الأخ «محمد ظفير»؟ أجاب مستعبرةً عيناه: اغتالته أيدي الجريمة النكراء: قطّاع طريق نشيطين في هذه المنطقة منذ أكثر من ستة شهور، وأنا ابنُه تركتُ دراستي في الكليّة لأقوم مقامه في التجارة؛ لأكسب بها ما أدير به شؤون أسرتي. قلتُ له: اين وقع هذا الحادث الأليم؛ قال: في قريتنا المتواضعة القريبة من هذا المكان؛ حيث كان ذاهباً إلى بيته مُغْلِقًا محلَّه هذا في الساعات الأولى من المساء بعد ما خَيَّمَ الظلامُ. فقلت: إنّا لله وإنا إليه راجعون، وعدت حزيناً كئيباً على استشهاده في العمر المُبَكِّر؛ حيث لم يتجاوز عمره 40-45 عاماً. ولا زال حاضرًا في مخيلتي، وأكثرت ولا أزال من الدعاء له بالخير والمغفرة، رحمه الله رحمة واسعةً، وأدخله فسيحَ جناته، وغَفَرَ له جميعَ زلاّته، لقاءَ ما رسّخه من القيم التجاريّة و الصفات المهنيّة السامية، وما تركه من المثل الأمثل في صدق القول، واجتناب إخلاف الوعد، ولين القول مع الزبائن المختلفي الطبائع.

*  *  *

     وإن أنسَ فلن أنسى ذلك المسؤول الكبير في مكتب مسح الأراضي الزراعيّة والضياع وتجزئتها لكلّ ملاّك حسبما تسمح به خرائطها، في قرية جامعة قريبة من قريتنا؛ حيث مسّت بي حاجة مُلِحَّة إليه، فقصدتُه بصحبة أحد وُجَهَاء قريتنا، ورفعتُ إليه حاجتي في الموعد الذي حَدَّدَه لي، فأسند المسؤولية بشأنها إلى عامل في مكتبه مُؤَكِّدًا عليه أن يقوم بهام في الوقت القياسي المُحَدَّد العاجل: نصف ساعة. وفعلاً أنهاها خلال هذه الفترة وعرض الأوراق على المسؤول ليُوَقِّع عليها، فأثبت توقيعة عليها عاجلاً، وأعادها بيده إليّ، دون أن يطلب منّي أيَّ قدر من النقود التي يطلبها جميعُ أو مُعْظَمُ المُوَظَّفِين الرسميّين عندنا رشوةً، ويرونها حقًّا واجباً لهم. وسألتُ وجيه القرية: هل أدفع إليه شيئًا؟ قال: لا، إنه مسؤول حكوميّ وحيد جَرَّبْتُه في حياتي لا يطلب رشوةً قليلةً ولا كثيرةً، لقاءَ أيّ عمل يقوم به عاجلاً دونما تأجيل لوقت آتٍ، ويمنع من تحته من المُوَظَّفِين من الارتشاء؛ فبدلَ أن يَرْضَوْا عنه ويَرْجُوا له الخير، يسخطون عليه ويمكرون ضدّه، ويسعون أن ينقلوه من هذا المكتب إلى مكتب آخر بعيد عن ههنا. وشافهتُه مباشرةً، قائلاً: سيّدي! هل أقدم إلى سيادتكم شيئًا لقاءَ ما قمتم به من تحقيق حاجتي بهذه العجلة التي كنت لا أتوقعها في مكتب هامّ مثل هذا المكتب، من المكاتب الرسميّة التي عمّ الاعتقاد بشأنها، أنه لا تتحقق ولن تتحقق فيها حاجةُ مُرَاجِع من المواطنين دون أن يُقَدِّمُوا مبلغاً محددًا رشوةً إلى المسؤولين والمُوَظَّفِين المَعْنِيِّين. قال: كلاّ! إني لا آخذ من مواطن أيَّ بيسة سوى ما أنال من الحكومة من المُرَتَّب الشهريّ الكبير الذي يفي بجميع حاجاتي وحاجات عائلتي ويفضل عن حاجاتنا القدرُ الكافي الذي أدّخره في البنك رصيدًا احتياطيًّا لوقت الحاجة. وقد أوصاني والدي وجدّي أن لا آكل إلاّ الحلالَ، وأجتنب الحرامَ كلَّ الاجتناب.

     قلتُ في نفسي: هل أتحدث وأتعامل مع هندوسي مُثَقَّف يعمل مسؤولاً كبيرًا في مكتب رسمي ذي أهميّة بالغة، أو أتحدث مع مسلم ملتزم بالإسلام وأحكامه يعرف بـ«صالح» أو «شيخ» أو بـ«ورع تقيّ زاهد»؟!. قالت لي نفسي: إن كثيرًا من المسلمين حتى الملتزمين بظاهر أحكام الدين من الصلاة والصيام والزكاة والحج لايحتزرون هذا الاحتراز الكبير من الحرام، ولا يَتَحَرَّوْنَ الحلالَ والحرامَ في معاشهم.

     وبعد شهور نما إلى أذني أنّ المسؤولَ قد تَمَّ نقلُه من المكتب إلى مكتب آخر في مدينة بعيدة، على مؤامرة بيّتها ضده جميعُ من تحته من الموظفين وفوقه من المسؤولين؛ لأن «ذنبه الكبير» كان يتمثل في أنه كان لا يرتشي، ولا يسمح لأحد أن يرتشي، وكان لايُقَدِّم إلى من فوقه من المسؤولين «نصيبهم المعلوم» من نقود الرشوة التي كان الواجب عليه أن يقبلها من المراجعين لصالحهم وإن لم يقبلها لصالحه هو!.

     إن العصر الذي مُنِيْنَا أن نعيشه انقلبت فيه الموازين، فصار الخير «شرًّا» والشرّ «خيرًا» و الذنب «حسنة» والحسنة «ذنباً» وأُرْغِمَ فيه الأخيارُ والطَّيِّبون على الإيمان بـ«القيم» التي رَوَّجها الشرار المفسدون، وإلاّ فإنهم سينالون أذى لايعلم مداه إلاّ الله وحده.

*  *  *

     وكثيرًا ما فكّرت أن لا أحبّ أحدًا على طيبه وحسن خلقه وتلطّفه في المعاملة، وصدقه في الوعد، وإحسانه للصفقة، لأن كلّ من أجده طيباً كريماً بعد التحري والتجربة، أجده يفارقني عاجلاً، ويخلفني أعيش ذكراه اللّذيذة العزيزة التي تثير الحزن والأسف، ولا تعوضني عنه بمن يبلغ عشر معشاره في أخلاقه التي كانت قد فَرَّدَته بين الأقران وعامّة الإنسان.

     والأمر لا يقتصر على الإنسان، وإنما يتجاوزه إلى الأشياء غير ذات الروح، فربّما وجدت ثياباً، أو ظروفاً وأواني أو أكواباً أو صحوناً أو أطعمة، لم أجد مثلها فيما بعد، وعندما وجدتُها تطرق إلى ذهني أنه ربّما لا أجد مثلَها.

     الحياة قد يمرّ فيها الإنسان بتجارب سانحة لا يمرّ بمثلها فيما بعد، ولاسيّما إذا كانت فريدة أو فيها نوع من الندرة والانفراديّة والإيجابيّة الطيبة. إن المفاسد وحامليها والمساوئ والمُتَلَطِّخِين بها، والشرّ وأبناءه والمتبنّين له والمنادين به والداعين إليه والمتعاملين به، كثيرون يطّردون كجراثيم الأمراض الكثيرة التي لاتُـحْصَىٰ؛ ولكن الخير والصلاح والحسنة والمعروف أبناؤه وأنصاره والمنادون به والمتبنون له والصادرون عنه في شؤون الحياة قليلون نادرون، لايوجدن إلاّ كسوانح الدهر، ومفاجآت التاريخ؛ من ثم تعم الدعوة إلى الشرّ والفساد بسهولة أي سهولة، ولا تنجح الدعوة إلى الخير والصلاح إلا بصعوبة أيّ صعوبة. ليس لأن الشياطين من الإنس والجن أقوى من الله تعالى الذي لايحبّ الفساد في الأرض؛ ولكن لأنّه تعالى بدوره هكذا أراد؛ ليتم ابتلاء الإنسان على المستوى المطلوب لديه تعالى؛ حتى تتجلى قيمة الخير في نظره، وأهميّة الصلاح في عقله و بصيرته، وحتى تتجلى عظمة الأخيار والصالحين والطيبين الذين عبروا إلى الخير كثيرًا من العوائق والمتاريس الضخمة التي لايعبرها إليه إلاّ ذوو العزيمة إذا حالفهم التوفيق الإلهي وإرادته تعالى لهم بالخير. وقد صدق عز وجل إذ قال: «مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» (النساء/79).

 

(تحريرًا في الساعة 12 من ضحى يوم الإثنين: 15/ربيع الأول 1434هـ = 28/يناير 2013م)

                                         أبو أسامة نور

nooralamamini@gmail.com

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ربيع الثاني 1434 هـ = فبراير ، مارس 2013م ، العدد : 4 ، السنة : 37